آخر الحكاية

كان التراب يحيط به من كل جانب و كان قد رقد بسلام بين حبيبات التراب الزكية التي طالما كانت قدماه تدب عليها . المارون يلقون السلام عليه بكل هدوء ويغادرون وقليلون هم من يبكونه ثم يرحلون ، ولكن امرأة صلبة قوية تطل الهموم والأحزان من عينيها اعتادت أن تأتيه كل يوم مارة من ذاك الطريق الجبلي المطل على الوادي الذي يرقد فيه أناس كثيرون ، وتجلس على ذاك المقعد الحجري المستند إلى الجدار المحيط بذاك المكان إلى جانب شجيرات خضراء صغيرة امتدت على محيط المكان بجانب كل مقعد ، وتمسي وهي تتحدث إليه كثيراً و تحلق في الأفق البعيد كثيراً علها ترى في صفحة الأفق الأحداث التي جرت مع زوجها قبل بضعة سنين ، حيث إن شارع المخيم بدا يضج بصراخ الناس وأزيز الرصاص و لكنه سرعان ما خيم عليه جو من الهدوء ، وأمسى زوجها أبا حاتم ممدداً على الأرض إلى جانب جثة يسبح في بركة دمائها وحينها شعر بإرهاق وتعب شديدين ، وعندما اقترب ببطء ليمعن النظر في من بجانبه أدرك بأنه يسبح في بركة دماء أبيه، فصرخ وغاص صوته في أعماق البحر الذي لا ينتهي عمقه . بعد لحظات اجتاح أذنيه صوت صراخ وبكاء مرير ، فاتجه نحو المصدر و إذا به يراني. كنت طفلة صغيرة لم أضئ حينها سوى شمعتين في حياتي وإلى جواري تمددت امرأة نحيلة تتفجر الدماء من قدميها، وفي ثوبها بعض التشققات التي أطلت منها الدماء و رأسها مقتحمٌ من الشيب الذي كان يعطيها الوقار والسكينة و وجهها ملائكي وابتسامتها هادئة وكأنها في راحة أبدية .
مد يديه وأمسك بي وضمني إلى صدره فشعرت بشيء من الحنان والطمأنينة فهدأت وهَدَأَ حزنه العميق قليلاً ، ثم مضى في طريقه والأثير من حولنا يعبق برائحة الموت والدم ، وبعدها بدأت الأمطار تتساقط وبدأت الأرض تلتهم حبات المطر بشغف شديد بينما الحبات ذاتها تداعب وجهه الشاحب وترسم عليه خطوطاً لا معنى لها .
كنت قد ملأت حياة أبي حاتم وزوجته فكبرت وترعرعت في ظلهما وبت أملهم الوحيد في الحياة بعد ضياع أرضهم وفقدان أهلهم .
وذات يوم وأنا في طريقي إلى المدرسة مررت من جانب ملعب صغير لكرة القدم ثم انعطفت يميناً لأجد نفسي في الشارع العام ، وتابعت المشي على ذاك الطريق المنحدر إلي وفي أعلاه كانت المدرسة تقف منتظرة وصولي، وحينها وأنا في طريقي على ذلك الإسفلت الصاعد إلى الأعلى أطلت في صفحة السماء طائرة من غير خيط جاءت لتزعج هدوء المخيم ، فدوت أصوات القذائف التي أمطرتها ، وكأنها تدري بما كان رأسي الصغير محشواً به فأرادت أن تفجره وتحيله إلى رماد ، وكأنهم عرفوا أني سأقدم التحية لعلَّمي اليوم وأنني سأنشد "أنا عربي" ، وكأنهم عرفوا أني البارحة رسمت رمزي "حنظلة" على إحدى جدران المدرسة ومقاعدها ، وكأن كل هذا كان ذريعة لاغتيالي ولإحالة جسدي إلى رماد .
حين حمل الأثير المنتشي برائحة الدماء الخبر لأبي حاتم صرخ بأعماقه بصمت ثقيل ، أراد أن يصنع شيئاً فسخر نفسه لصناعة قنابل غازية لتمديد الثوار بها ولكنه ما إن فكر يوماً في إن يشترك بمجابهة ويلقي بواحدة من صنع يديه حتى كان مرمياً برصاصهم قبل أن يرميهم بقنبلته اليدوية البسيطة.
كنت أرقد بسلام إلى جوار أبي حاتم وتلك المرأة ظلت تأتي إلينا وستظل تأتي إلى أن تزغرد لآخر شهيد وتحمله إلى حيث تجلس كل يوم ليحضنه تراب وطنه ، ولتجلس هي حيث اعتادت الجلوس و تقص علينا نهاية الحكاية قبل أن تقوم القيامة .