شخصيات وطنية

سميح القاسم: مرحلة الاحتلال وما يرافقها من شتات فلسطيني عابرة لأنَّ القصيدة تنبأت بذلك
رام الله - صباحٌ للشاعر العربي سميح القاسم في مدينة رام الله، لم يكن عاديا، خصوصا أنه بدأه بزيارة ضريح رفيقه الشاعر الكبير محمود درويش. وضع إكليلاً من الزهور عند الضريح، وكتب له "كل عام وأنت بخير".
كان التأثرُ بادياً على القاسم، ولم يقل الكثير فعلاقته بدرويش كما يراها "أكبر من أيِّ كلام".
تحدَّثَ في اللقاء المسائي مع مجموعة من الشباب في محاور ساخنة بعضها طازج، وبعضها استعاده من أورق الذاكرة؛ ففنَّدَ شائعات إلقائه قصيدة رثاء لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين، وعن الحصار الذي تفرضه دول عربية عدة عليه وعلى كل مبدعي الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1948.
في مستهلِّ الحوار، ردَّ القاسم على سؤال حول الشائعات والهجمة التحريضية التي استهدفته بالحديث عن إلقائه قصيدة رثاء لرئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين، وعند قبره العام الماضي.
وقال: "نحن للأسف الشديد أحياناً نستمع إلى إشاعة ونتبناها ونعيشها ونكررها"، معتبرا أنَّ الحديثَ عن نظمه قصيدة رثاء لرابين يذكره بطرفة عن مرشحين في الكونغرس قام أحدهما بنشر شائعة مفادها أن شقيقة خصمه زانية، فسخر منه الخصم بأن لا شقيقات له، فرد الأول أنه حتى تثبت للعالم بأن لا شقيقات لك يكون انقضى موعد الانتخابات وخسرتها أنت.
ويتابع: "رابين ذكر في الشعر العربي مرة واحدة في قصيدتي (يوم الأرض) في العام 1976 قلتُ حينها: هل أوقفت الشمس على أسوار أريحا.. أرضيت الرب القاتل لا نعلم .. لكنا نعلم أن الشمس تسير على أعناق الشهداء.. من بحر البقر إلى سخنين ومن المغرب لفلسطين فاسمع يا يوشع واسمع يا رابين".
واستهجن القاسم مقالاً لصحافي أردني يصفُ زيارته إلى الأردن وإلقائه الشعر فيها بالتطبيع. وقال: "أنا لم أحضر باسم "دولة إسرائيل أو حكومة إسرائيل"، فمسقط رأسي في الزرقاء، وفي الأردن يسمونني (أبو محمد الزرقاوي)"، مستغربا: "أيُّ تطبيع هذا حين أقابل شعبي في الأردن؟!".
وأضاف: "هناك من يعايرنا بأننا بقينا في أوطاننا.. أستغرب هذا المنطق الأعوج، نحن نقاوم ببقائنا وصمودنا على أرضنا أكثر بكثير ممن يزاودون علينا".
وأكد القاسم أنَّ مرحلة الاحتلال وما يرافقها من شتات فلسطيني عابرة لأنَّ القصيدة تنبأت بذلك. وقال: "تشتتنا بين رام الله والرامة في الجليل أمر طبيعي في هذه المرحلة غير الطبيعية.. وهذه المرحلة غير الطبيعية مرحلة عابرة لأنَّ القصيدة الفلسطينية قالت لها ستكونين لها مرحلة عابرة.. هذا ما قالته القصيدة، والقصيدة لا تشتغل بالتكتيك ولا بالخرائط ولا تفاوض.. القصيدة تقول حملها وجموحها بكل حرية، ولذلك فليس هناك شيء أكثر صدقاً من القصيدة الصادقة".
وأكد القاسم أنه ليس على الأرض أكثر واقعية من خيال الشعراء، ذاهبا إلى أنَّ خيالَ الشعراء يقول إنَّ "الاحتلال زائل لأنه باطل، ويتعارَضُ مع المنطق التاريخي والوعي الإنساني والأديان والشرائع السماوية والأرضية".
وأضاف أنَّ "الاحتلالَ يتعارضُ مع مهبِّ رياح العصر الذي يرفض الاحتلال والعنصرية، ونهب الأرض وبناء البيوت عليها للوافدين من كل أنحاء الأرض".
وشدَّدَ القاسم على وعي الشاعر الفلسطيني بحقوقه منذ بدايات القرن الماضي، وتحدَّثَ بشيء من الإسهاب عن نضالات القصيدة الفلسطينية، كاشفاً عن فضائح لشعراء عرب وشخصيات سياسية ودينية فلسطينية وعربية تورطت في مديح المندوب البريطاني السامي "الصهيوني"، والمشاركة في افتتاح الجامعة العبرية ومشاريع يهودية أخرى، من بينها مشاركة مفتي يافا في افتتاح مشروع لصناعة الخمور في "غوش عتصيون" قبل العام 1948، ونظم شاعر عربي شهير لقصيدة يصف فيها ليلة لقائه بهربرت صموئيل بأنها "كليلة القدر"، ومشاركة مفتي القدس ومطرانها الأكبر في وضع حجارة الأساس للجامعة العبرية.
ويُشيرُ القاسمُ إلى أنَّ الصراع لم يبدأ مع الجيل السابق، مبينا أنه قبل أعوام أصدرَ بالتعاون مع "اليونسكو" كتاباً بعنوان "مطالع في أنطلوجيا الشعر الفلسطيني في ألف عام"، بدأت من كشاجم الرملي الذي كان يلقب بـ"متنبي فلسطين" قبل ألف عام، وكان الهدف من هذا الكتاب الرد على مقولة الاحتلال الفلسطيني بأن الشعب الفلسطيني غير حضاري، ولو كان يملك حضارة لما ترَكَ أرضه.
ويرمز هرتزل للفلسطيني في كتابه بشخصية رشيد بيك، وهو إقطاعي يرى أن المشروع الصهيوني يجلب العمران والحضارة فيقدِّمُ أرضه للمشروع الصهيوني، وينسجم معه وينخرط فيه. ويقول القاسم: "هذا نموذجٌ للهوس والهستيريا الصهيونية التي ورَّطت شعبي البلاد العرب واليهود في مجازر وحروب لم تنته". ورأى القاسم أنَّ "الصراعَ لن ينتهِ إلا إذا أقرَّ الاحتلالُ الصهيونيُّ العنصريُّ الغاشِمُ بحقِّ تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني، وحق إقامة الدولة وعاصمتها القدس الشريف، وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم، وحقهم في السيطرة على مقدرات الوطن".
وأكد صاحب "منتصب القامة أمشي" أنَّ الكلمة الفلسطينية، وخصوصا القصيدة، كانت في مواجهة دائمة مع المشروع الصهيوني منذ نشأته، مشدِّداً على وعي المثقف والمبدع الفلسطيني للمخططات الاستعمارية الصهيونية.
واختصر القاسم حكاية قصائد الأوائل بالقول: "شعراء الآباء كانوا على وعي تام بما يحدث.. أشعارهم كانت بمثابة حيوانات الغابة التي تستشعر الهزة الأرضية قبل وقوعها بالغريزة والحس، ولم تجامل قصائدهم لا الزعماء ولا الشيوخ ولا القساوسة ولا غيرهم".
وحذر القاسم، مع تأكيده أنه ليس من أنصار عقلية المؤامرة، من مؤامرة على اللغة العربية، مبيِّنا أنه في الأعوام الأخيرة نشأت بعض القضايا التي يجب أنْ تكونَ واضحة للجيل الجديد.
وأشار بذلك إلى ظهور تيار يتحدث عن أن زمن شعر المقاومة وشعر القضية ولى، وأن لا لزوم ولا مبرر له، وأن الفنيات في القصيدة تتناقض مع السياسة.
وقال: "نحن كشعب عربي بالعموم، وكشعب فلسطيني على وجه الخصوص لا بد أن ندرك أن الثقافة هي خندقنا الأخير، ليس لدينا سلاح طيران، ولا دبابات، ولا نفط، ولا نحاس، ولا ذهب، ولا حديد .. ليس لدى شعبنا إلا ثقافته، واعتزازه بتاريخه، وثقته بعدالة قضيته، فنحن ضحايا عدوان".
وأكدَ القاسم: "نحن لا نرتجي نجومية من وراء شعر المقاومة وشعر القضية". ويُتابع: "نحن لم نصنع الكارثة لنكتب شعر مقاومة وشعر قضية، ما به شعر الحب والمرأة والطبيعية، لكن حين نسحق بحذاء جندي أجنبي لا بدَّ أنْ نصيحَ فقصيدتنا هي آهاتنا، وهي وسيلتنا في رفض الدوس بالحذاء".
وشدَّدَ على أنَّ شعرَ المقاومة والقضية ضرورة تاريخية، ما دام هناك احتلال وعنصرية وعنف وديكتاتوريات وطاغوت، ذاهبا إلى أنَّ شعرَ المقاومة ليس فقط ضد الاحتلال، بل ضد الطاغوت العربي، وضد التخلف والجهل، وضد ما أسماه "الجاهلية الجديدة".
وتساءل القاسم عن مفهوم الحداثة في الشعر. وقال: "لا أعتقد أن شعر السفرجل الفاسد شعر حديث"، مشيراً إلى تصريحات شاعر أوروبي بأنه لا يستطيع كتابة الشعر من دون شمِّ رائحة السفرجل الفاسد.
وتابع أنَّ "الكتابة عن السفرجل الفاسد حداثة، أما الكتابة عن محمد الدرة فليست كذلك لأنه محمد وليس فرانسوا"، معتبرا أنَّ الحداثة باتت تشبه شاعراً فرنسياً أو بريطانياً أو أميركيا.
وأكدَ أنه يبني حداثته من أصالته، معتبرا أنَّ هناك الحداثة في الشعر العربي والتي تمثلها القصيدة الفلسطينية بامتياز. ورأى أنها "الممثلُ الشرعيُّ والوحيد للحداثة العربية"