آلام وآمال

آلام وآمال
كانت الطائرات تمطر أجواء غزة بوابل من القذائف التي دوت قاطعة صمت الليل في المدينة الهادئة ، والدبابات فتحت أفاه مدافعها بسيل من النيران أحرقت البيوت والبيارات ووسائل الإعلام تنقل الأحدث من هنا وهناك ، وفي إحدى القنوات كان الشيخ يتحدث عن الأحداث الدامية التي شغلت العالم بأسره ، وبين الحين والآخر يعرض صورا تشهد بوحشية المعتدي مزقت النفوس ألما . كل واحدة منها تقول للإنسانية أين أنت ؟ واحدة منها استوقفتني وألحت علي نظرت إليها ثم أعدت النظر .
في الحقيقة لم تكن صورة واحدة بل كانت ثلاث صور لمأساة واحدة ، أبكت قلبي قبل عيني ، وفي الصورة الأولى كان طفل في الثانية أو الثالثة من العمر مرت الطفولة من أمامه وضنت عليه فتركته بعد أن حمّلته هموم الكبار ، كان الدم غطى ثيابه وملأ وجهه ويديه ، وقد وضع إحدى يديه خلف ظهر أمه محاولا رفها بعد ان عجزت عن الوقوف بسبب إصابتها الشديدة ، وتضاعفت عليه الآلام ، حيث أصيب قلبه وكلمت روحه وجاءت الصورة الثانية لتكمل المشهد ، كانت الأم فيها قد تهالكت وفقدت قوتها تاركة جسدها فوق كتفي ابنها الذي كان يستجمع آخر قفوة لديه في رفعها أما الصورة الثالثة فقد توقف الزمن أمامها فاسحا المجال لها لتثبت شكواها . ياللعجب لأول مرة في حياتي أرى صورة تتحدث ، وتفصح بهذا البيان ، كان صوتها تخنقه العبرة ، وآهاتها تقطع نياط القلب ، كيف لا وهي تحكي مأساة الكفل الفلسطيني الذي هده الظلم والحرمان ، وفقد آخر عزيز لديه . سقطت الأم على الأرض ، وارتمى الطفل فوقها واضعا رأسه على رأسها ويده على قلبها ، كانت يده تحاول أن تمسك بذلك القلب الذي كان كعصفور سارع إلى الخروج من القفص فحلق بعيدا حيث لا ظلم ولا نصب ، واجتاحته موجة من البكاء قضت علىآخر قوة لديه ، وامتزجت دموع الطفل بالدم الذي خضب وجهه.
سمعت أذناي ذلك البكاء والنشيج ، لم يكن البكاء بكاءه فقط بل كل ما حوله بكى لبكائه الجدران، الأشياء المحطمة ، الأرض التي سودتها قذائف المدافع ، ثم طهرتها دماء الأم وابنها أضاقت الدنيا وضنت عن قطعة الأرض تمنحها لهما ليعيشا فيها سوية بأمان ؟
سمع قلبي ندائه الأخير لها :
أماه لماذا الرحيل ؟ لمن تتركيني أماه ومن لي في الدنيا غيرك ؟ لماذا توقف قلبك الكبير الذي كان يحمل هموم الثكالى ودمعات اليتامى وآهات الجرحى ؟
أماه إن كنت قد عزت على الرحيل فخذيني أعيش حيثما تعيشين ولا تتركيني وحيدا في دنيا الآلام !
كان قلبي يحاول أن يضمه إليها ، كان يتمنى أن يمسح تلك الدموع التي سالت من أجله ولكن أنى له ذلك وقد جفت آخر قطرة من الدم كانت تحاول البقاء ، ولكن هذا القلب الذي لا يعرف اليأس ناداه من عالم الأرواح : بني يا ريحانة فؤادي ، وبسمة قلبي فدتك روحي ونفسي لا تزد قلبي جروحا ، لم اترك في دنيا الآلام آمال ، عرفتك شجاعا مقداما فعقدت عليك الآمال ، تنتظر الأرض العطشى والقلوب الجرحى فإن أنت تخاذلت فمن للأرض بعدك من للجرح غيرك ؟
بني أين ذلك الإيمان الذي ربيتك عليه ؟ أين ذلك اليقين ، والرضى الذي أرضعتك إياه ؟ المؤمن لا يعرف اليأس ، فإن كان من في الأرض قد خذلوك ، فإن من في السماء سبحانه قد وعدك بالنصر ، وإن كانت الهيئات قد حرمتك فإن الكريم سيمنحك ومهما طال الظلام فلا بد أن ينبلج الصباح . ولن يدوم الظلم ولنا إله عادل ينصف المظلوم ويصم الظالم ، تناثرت هذه الكلمات قبل ان تصل إلى سمع ذلك المفجوع ، ولكن شق عبق أريجها الذي ملأ المكان وسرى طيفها أمام ناظريه فشعرت روحه بالرضا والصبر ومنحته مزيدا من العزم والإصرار بالرغم من الآلام التي أضنته ، وظلت صورة أمه أمامه هي مبعث الأمل وفجأة توقفت الصورة عن الكلام ، إذا عاد الشيخ ليتابع حديثه .
وتوقفت الحرب ولم يتوقف ذلك الجرح الذي ينزف ، فالحصار مازال مستمرا ، والجرحى يرقدون على أسرة الانتظار ، والأرض تحكي سلسلة من المآسي التي يندى لها جبين الإنسانية ممزقة ذلك القناع الذي اقتنعت به منظمات حقوق الإنسان .
رائحة الدمار منشرة في كل مكان والظلم وضع بصمته في كل بيت ، والمساعدات تنتظر في الأونروا قذيفة جديدة تحرقها ، وشجرة الزيتون تبكي بصمت أسرتها تبكي ذلك الشيخ الذي غرسها والشاب الذي رعاها والطفل الفلسطينية يسأل سؤالا يلح عليه ويؤرقه يبحث عن إجابة له هنا وهناك : من سيعوضني عن أمي وأبي وعن أختي وأخي .
انتهت الحرب فكوفئ الجلاد فيها بمزيد من التأييد والدعم ، وعوقبت الضحية بمزيد من التضييق والحصار ، ولكن في النهاية فازت غزة بأن تغلغل حبها في القلوب أكثر .
القصة لم تنتهي فهذا كان الجزء الأول منها ، أما الجزء الثاني فشاهدته على إحدى القنوات بعد توقف الحرب ، حيث عرضت قصة بطل من أبطال الجهاد يتحدث عن تلك الملاحم المشرفة التي خاضوها في معارك عزة . وكانت بعيدة عن كاميرات الصحافة ثم وجه إليه سؤال يدور في خلد الكثيرين : ما هو السر في ذلك الاندفاع وتلك الشجاعة وذلك الإقدام الذي تتمتعون به ، حيث تقتحمون غمرات الموت دون رهبة ولا وجل ؟
كانت إجابته تحمل في طياتها معاني الفخر ، والاعتزاز : إن إيماننا بالله هو أقوى دافع لدينا ، ثم ما وهبنا الله من وجودنا في ظل أسرة تأبى الذل والهوان . ربانا آبائنا على حب الجهاد فكانوا يحضوننا على الخروج للقتال ليس لقلة حبهم لنا ، إنما لشعورهم بأنهم يقدمون أغلى ما لديهم في سبيل الله .
وقد جعلوا من أنفسهم خير قدوة لنا ، تصور أن والدي اتصل بي في أشد الأوقات صعوبة ونحن في قلب المعركة فلما سألته عن حاجته قال لي : أريد حزاما ناسفا ! ولما سألته بالله عليك ماذا تريد أن تصنع به ؟ قال لي من المؤكد أنه ستمر من أمام دارنا مجموعة من أولئك اللصوص الذين سرقوا الأرض والأمن ، فستكون فرصة لأنال شرف تطهير الأرض من رجسهم فأفخخ البيت بنفسي ، وهل تطمعون أن تنالوا شرف الشهادة وحدكم. فرأيت في ذلك الأب ذلك الطفل الذي أرسلت له أمه تلك الكلمات فوعاها وأداها فأنشأ شجعانا لا يخافون الموت .
وتتزايد الآلام بجمود الضمائر التي وضعت في ثلاجات المغريات الزائفة وتسطع الآمال من آباء وأمهات زرعت قلوبهم في تلك الأرض ، فأنبتت تلك الأشجار الباسقة التي تحمل الإيمان في قلوبها ، والبندقية على أكتافها .

حسبي الله على اسرائيل الله يدمرهم

مشكووور

امين الله يدمر الصهاينة
خلونا ننسا كلمة اسرائيل لأنو سيدنا اسرائيل ((يعقوب عليه السلام ))
برئ منهم ومن افعالهم الوحشية