الطغيان في الرؤية القرآنية

يبرز مفهوم الطغيان في القرآن الكريم كأي مفهوم ربط مصيره بالخسران والإنذار بسوء العاقبة ، وقد برز هذا المفهوم مرتبطا في معظم الآيات القرآنية بالأقوام التي بعث الأنبياء إليها إنقاذا لهم من شرور أنفسهم وتمردهم على العرف الإنساني ذي الطبيعة الخيرة ، وربط هذا المفهوم أيضا بكل الأعمال التي تجاوز فيها الناس حدا من حدود الخير المتعارف عليها دينيا واجتماعيا آنئذ .
والطغيان اصطلاحا هو تجاوز الحد وكل مجاوز حده في العصيان طاغ ، وأطغاه المال جعله طاغيا ، والطاغية الصاعقة كقوله تعالى ( فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ) الحاقة 5 والطاغوت الكاهن والشيطان كقوله تعالى ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ) النساء 6. .
وذكر في القرآن الكريم مفهوم الطغيان أكثر ما ذكر في المعنى الأول منه اصطلاحا رابطا إياه بأشخاص عتوا وعصوا أمر ربهم وأقوام أفسدوا في الأرض وجعلوها مسرحا لكل الأشرار وسافكي الدماء وناهبي الأرزاق . ومن هؤلاء فرعون وقوم عاد وقوم ثمود ، ولكل منهم طغيانه وتجاوزه الحد في ما شرع الله وأباحه وخصه بنفسه ولكل منهم كان جزاء بما طغى وعتى وظلم غيره ونفسه .
بم طغى فرعون ؟ لقد كان طغيان فرعون طغيانا على ما اختص الله به وهو الوحدانية في ربوبيته والأحقية بعبادته إلى جانب أنه ظلم طائفة من الناس وكان ممن أفسد باستحياء النساء وتذبيح الأطفال . يقول تعالى ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أطفالهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين ) القصص 3 أما صفة الطغيان المطلقة جاءت بسبب ادعائه الألوهية أولا والربوبية لاحقا وكان ذلك حين قوله لقومه ( يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري ) القصص 38 ثم قوله ( أنا ربكم الأعلى ) النازعات 24 وقد وقعت صفة الطغيان على فرعون بعد ادعائه الألوهية فجاء جزاء الله على كلمته الأولى والثانية بقوله تعالى ( فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ) النازعات 25 . وقال المفسرون أن بين قول الكلمة الأولى والثانية أربعين عاما وبذلك يكون تعالى قد ترك الفرصة لفرعون ليعيد التفكير بعد رؤيته كل معجزات موسى عليه السلام التي أيده الله بها كيلا يكون حجة فلما عتى فرعون ولم يؤمن بكل الدلائل قال الله لموسى عليه السلام ( اذهب إلى فرعون إنه طغى ) طه 24 والنازعات 17 كما وجه الخطاب أيضا لموسى وهارون عليهما السلام بقوله تعالى ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى ) طه 43 . وقد ساق الله تعالى عدة دلائل على طغيان فرعون وتمرده على الله ورسوله حتى يجعله عبرة لكل الطغاة في الأرض وكيف هو جزاؤهم .
طغيان عاد وثمود : لقد أعطى الله قوم عاد ما لم يعطه لغيرهم في تلك الفترة فقد أمدهم الله بخيرات جمة ومتعهم بقوة مكنتهم من بناء مساكنهم في مرتفعات وينحتونها في الجبال وجعلهم كما تقول المصادر التاريخية والمفسرين على مكان تجارة ومركزا تعبر منه القوافل فلذلك كانوا أصحاب مال يعيشون في ترف وبذخ . ولما جاءهم النبي هود عليه السلام بالنصح كذبوا ما جاء به ورفضوا الإيمان بالله الواحد فقد كانوا من عباد الأصنام إلى جانب أنه ذكّرهم أن كل شيء هو من عند الله فأبوا إلا أن يكفروا بيوم البعث والعذاب وأن السمع والبصر كان الله عنه مسؤولا . متى وقع قوم عاد بالطغيان في الآيات القرآنية ؟ يقول تعالى في محكم تبيانه ( وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد ) هود 6. ويقول تعالى في موقع آخر على لسان هود ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين ) الشعراء من الآية 129 حتى الآية 131 . ويقول تعالى أيضا على لسان هود أيضا ( إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم * قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين * إن هذا إلا خلق الأولين * وما نحن بمعذبين *) الشعراء من 135 حتى 138 ، ويظهر من خلال الآيات القرآنية أن الطغيان أخذ عند قوم عاد مفهوم الجحود والتكذيب بما أخبرهم وذكرهم به المرسلون حيث أبوا إلى أن يعيشوا بما زين لهم الشيطان و وبما غررت بهم قوتهم حين رأوا من لا يردعهم حين كانوا يسخرون بالأقوام الأخرى وهم على بيوتهم العالية الصلبة يقفون ، فجاء انتقام الله منهم نتيجة ما كانوا يكفرون به يقول تعالى ( كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر * فكيف كان عذابي ونذر *) القمر من 18حتى 21
طغيان ثمود : أما قوم ثمود فحالهم كحال قوم عاد عصوا ما أمرهم تعالى ونبيه به سوى أن هؤلاء القوم انقسموا فريقين منهم من آمن بصالح عليه السلام ومنهم من لم يؤمن والسبب في ذلك أن قوم ثمود قاموا على أنقاض قوم عاد وكانوا يعلمون ما فعل الله بهم فالنبي صالح عليه السلام كان ذكرهم بما حصل لعاد والدليل قوله تعالى على لسان صالح ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) الأعراف 73.
وقد كانت الناقة بالإضافة إلى ما أصاب قوم عاد آية تكفي قوم صالح كلهم للإيمان بما حكم الله وأنزل ، فالناقة التي أخرجها الله من الصخر الصلد كي تكون آية صالح على نبوته عقرها المستكبرون الكافرون بما آمن به غيرهم من القوم فقامت عليهم الحجة بالطغيان فقد تجاوزوا حدود الله حيث أمرهم أن لا يؤذوا تلك الناقة ولا يمسوها بضر ، فالخروج عن الأمر الإلهي كان السبب في إنزال سخط الله عليه وفي ذلك يقول تعالى ( وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين * فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون * فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين ) الذاريات من 43 حتى 45. فقد كان لطغيان ثمود صفة العصيان المطلق عن أمر الله تعالى .
وهكذا كان جزاء طغيان كل من فرعون وثمود وعاد العذاب الشديد فيقول تعالى ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب *) الفجر 6 حتى 13 .
بدا من خلال ما سقناه حول الطغيان ومتى وقع وعلى من أطلق في القرآن الكريم أن هذا المفهوم كبير جدا من حيث عقوبته والخشية من الوقوع فيه فالوصول إلى معنى إسلامي دقيق له يمكننا من معرفة الطاغين قديما وحديثا وكيف يمكننا أن نبتعد عن الوقوع فيه خصوصا وأن الآية القرآنية في سورة العلق ( كلا إن الإنسان ليطغى ) تفتح بابا لفهم المقصد من تلك الآية والسبب في ذلك التعميم الذي وقع في خطابه تعالى للإنسان . كافرا أم مؤمنا ومشركا أم موحدا ، بل وعندما وصف الله الشيطان بالطاغوت ، وعندما يندرج فرعون وعاد وثمود في زمرة الطغاة يصبح علينا لزاما البحث في هذا المفهوم تحاشيا من الوقوع في تلك الزمرة .
ولما أعطى الله مفاتيح الفهم في إعطاء أمثلة عن الطاغين تتوضح صورة الطغيان وينقشع من حولها سوء الفهم ، ففهمنا أن طغيان فرعون كان في تجاوز الحد في العصيان بتأليه نفسه وأن طغيان عاد كان في تجاوزهم الحد في العصيان بجحودهم بما أعطاهم الله وسخريتهم من باقي الناس وأن طغيان ثمود كان في تجاوزهم الحد في العصيان حين خالفوا أوامر الله ورسوله بعد أذية الناقة التي أخرجت من رحم الصخر . وما هذا كله إلا إنذار لعدم الوقوع في أي معصية تؤول إلى الطغيان .
وفي تفسير الآية الكريمة ( كلا إن الإنسان ليطغى ) يقول الطبري أي أن الإنسان ليتجاوز حده ويستكبر على ربه وفي تفسير المنتخب ورد أن الإنسان حقا ليجاوز الحد ويستكبر على ربه ، من أجل أن رأى نفسه صاحب غنى وثراء وفي تفسير القرطبي ورد أن الآية الكريمة نزلت بحق أبي جهل والطغيان هو مجاوزة الحد في العصيان .
وآيا ً يكون فالطغيان هو شر قد يقع فيه الإنسان لسبب من الأسباب وهو أعلى من العصيان بمرتبة ومن الضلال بمراتب والدليل في قوله تعالى ( فلما رأوها قالوا إنا لضالون * بل نحن محرومون * قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون * قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين * فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون * قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين * ) القلم 26 – 31 . ويشتمل معنى الطغيان على الخروج عن طاعة الله كما قال ابن كثير في تفسير الآية ( هذا وإن للطاغين شر مآب ) ص 55 وقد وعد الله الطاغين بمدد إلى حين كما في قوله ( الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) البقرة 15 .
الطغيان في ميزان الآيات القرآنية اشتمل على معاني كثيرة كان أكثرها يعني تجاوز الحد من العصيان . ويذكر الله في آياتها عاقبته في الدنيا والآخرة وبالرغم من كل التحذيرات من الوصول إليه إلا أننا نجد اليوم الكافرين وبعض من المسلمين يزيدون في الطغيان كما لو أنهم مبتدعوه دولا كانت أم أشخاص فالكيان الصهيوني تجاوز حتى الطغيان ليعلوه منازل كثيرة ونحن كمسلمين اليوم متيقنون من سوء العاقبة وما ذلك المدد الذي يصلهم إلا من عند الله كي تكون العاقبة على قدر سخطه عليهم تعالى وجل .