فلسطين في الضمير التركي

(انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جديدة في هذا الموضوع , إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض , فهي ليست ملك يميني بل ملك للأمة الإسلامية : التي جاهدت في سبيلها وروتها بدمائها فليحتفظ اليهود بأموالهم وملايينهم , وإذا مزقت يوماً دولة الخلافة فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن ؟ أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من الدولة الإسلامية , وهذا أمر لا يكون ، إنني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة) في العام 1901.من كلمات السلطان عبد الحميد الثاني آخر الخلفاء العثمانيين.
على مر أربعة قرون من الوجود العثماني في العالم العربي أوليت ديار بيت المقدس أهمية خاصة تنبع من مكانتها الدينية والجغرافية والتاريخية في خارطة العالم الإسلامي. وعلى الرغم من كل التشويه التي تعرض له الوجود العثماني في العالم العربي على يد عدد من المستشرقين الغربيين لمحاولة شطر العالم الإسلامي وتقسيمه وزرع الفتن بداخله إلا أن ما تبقى من أرشيف العثمانيين وأرشيف بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا القيصيرية يتحدث يكل وضوح عن دور هام في محافظة العثمانيين على ديار بيت المقدس وحمايتها بشتى الوسائل. ولعل ما وصلنا حتى الآن من وثائق تزور التاريخ العثماني وعلاقته ببيت المقدس على وجه الخصوص ما هي سوى نتاجات مستشرقين أو مستغربين أرادوا تفتيت العالم الإسلامي منذ توحيده لأول مرة بعد الخلافة العباسية.
وقد شكلت بلاد الشام على مر التاريخ العثماني العمق الأول للدولة العثمانية دينيا وسياسيا. فمع ابتعاد مكة المكرمة عن مركز الدولة العثمانية أضحت القدس وقدسيتها ومباركتها في الموروث الإسلامي مركز الاهتمام الأول. ونلاحظ ذلك من خلال الاهتمام بالعمائر في الديار المقدسية خصوصا وبلاد الشام عموما حيث تأتي بلاد الشام في المرتبة الثانية بعد تركيا من حيث الاهتمام بالمباني والمرافق.
إضافة إلى ذلك شكلت القدس الهاجس الديني والأدبي والفني للعثمانيين حيث كانت مركز إلهام لهم في معظم المناسبات وما تزال كثير من الكتب التاريخية والدينية وعدد من النصوص الأدبية والنتاجات الفنية التي تعود لفترة الوجود العثماني محفوظة بعناية في المتاحف التركية وتتحدث عن أهمية القدس مرجعا ومصدر إلهام لكثيرين.
هذا وقد لعبت قصة السلطان عبد الحميد الثاني مع اليهود دورا هاما في التأكيد أن القدس حاضرة في الضمير التركي وفي ضمير كل مسلم مهما كان للسياسة من تقديرات. ولولا موقف السلطان عبد الحميد لكان ما حل بالقدس أكثر بكثير مما نراه ونشاهده اليوم.
ومنذ تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في تركيا تغير وجه تركيا الحديث وتغيرت طبيعة تعاطيها مع القضايا العربية والإسلامية، وهذا الشكل الجديد الذي تمت قولبته فكريا وسياسيا على يد حزب العدالة والتنمية أعطى للقضايا الإسلامية وخصوصا قضية فلسطين زخما قل نظيره في القرن الماضي ذلك لأن بوابة أوروبا تركيا تنقل مواقفها بكل صلابة إلى العالم وإلى القارة العجوز التي حادت عبر قرن من الزمان عن الحق ودعمت الكيان الصهيوني بالرغم من كل الإجرام الذي مورس بحق قضية فلسطين وشعبها.
كثيرون من قالوا إن موقف تركيا جديد إلا أن الحقيقة إن موقفها السياسي هو الجديد فقط بسبب تغير الحكومة أما الموقف الشعبي من قضية فلسطين لم يتغير منذ أن عم الإسلام هذه البلاد ومع صعود حركات التحرر الإسلامية إلى واجهة النضال والمقاومة منذ ربع قرن تقريبا بدأ الحراك الشعبي التركي باتجاه القضية الفلسطينية يأخذ منحى جديدا بدعمه لهذه الحركات بالخفاء أما اليوم فقد أسدل الستار عن هذه المرحلة وبدأ الشعب والمؤسسات التركية تعمل في ظل حكومتها لدعم قضية فلسطين وشعبها .
فلسطين اليوم في ضمير تركيا اليوم "
إن ما قدمته تركيا للقضية الفلسطينية منذ تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم برز على عدة مستويات وهي :
المستوى السياسي "
شق الخطاب السياسي التركي طريقه إلى القلوب المؤمنة بأن قضية فلسطين قضية آن لها أن تَنصف وأن ترسخ مفاهيم العدل الدولية وتتبلور من أجلها . فقد صّدت تركيا من لهجتها ومن انتقاداتها للكيان الصهيوني في استهدافه للأرض وللشعب. وجاء ذلك من خلال :
1- زيارة أوردغان للمسجد الأقصى في العام وتأكيده على إسلامية هذا المسجد وضرورة حمايته كونه من أهم المقدسات الإسلامية. إضافة إلى التأكيد على ارتباط المسلمين في أنحاء العالم بالمسجد الأقصى شاء اليهود أم رفضوا. وقد تركت هذه الزيارة الهامة دفعا باتجاه شعور الصهاينة إن لهذا المسجد ارتباط روحاني بالمسلمين وأن له من يحميه في العالم وفي الحلبة الدولية.
2- موقف تركيا الرافض للحرب على قطاع غزة وموقف أوردغان في مؤتمر دافوس حين انتقد على الملأ شيمون بيريس انتقادا لاذعا على خلفية مجازر غزة العام الماضي.
3- تعليق تركيا مناوراتها العسكرية مع الكيان الصهيوني وإيقاف عدد من الصفقات العسكرية وإلغاء بعضها .
4- حضور القضية الفلسطينية في المجتمع الدولي بقوة والمطالبة بإنصاف الشعب الفلسطيني على يد الساسة الأتراك.
المستوى الإعلامي
1- أقامت تركيا العديد من المؤتمرات والمهرجانات الداعمة للقضية الفلسطينية ومنها مؤتمر القدس الذي نظمته في شهر 4 \ 2009
2- إقامة مهرجانات ومؤتمرات لمؤسسات المجتمع المدني وقد تم دعوة المؤسسات الفلسطينية المعنية بقضايا حق العودة والعمل الخيري .
3- إقامة عدد من الفعاليات الأدبية والفنية نصرة لقضية فلسطين كمهرجانات الشعر والرسم والغناء.
4- قام الشعب التركي بالانتفاض غضبا على الصهاينة إبان الحرب على غزة فسمحت الحكومة للشعب بالتظاهر والتعبير عن رأيه مما ترك انطباعا لدى العالم وخصوصا القارة العجوز أن الشعب التركي يؤكد على أخوته مع المسلمين فلسطين وخارجها ولذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار هذه التظاهرات والمسيرات الرافضة للتعنت الصهيوني .
1- المستوى المادي الخيري"
1- فتحت تركيا عددا من مشافيها لاستقبال عددا من الجرحى الفلسطينيين إبان الحرب الأخيرة على غزة
2- دعمت تركيا عددا من المشاريع الخيرية لفلسطيني الداخل والشتات منها كفالات للأيتام من أبناء الشهداء. وتقديم مساعدات تعليمية لأطفال غزة. وافتتاح عدة مشاريع في المخيمات الفلسطينية الموجودة في الشتات كمشاغل الخياطة.
3- أولت قضية اللاجئين الفلسطينيين في مخيم التنف أهمية كبيرة وقدمت لهم الكثير من المعونات
هذا ولم يقف الدعم التركي عند هذه الحدود فقد أرسى انفتاح تركيا على العالم العربي والإسلامي الشعور لدى كثيرين من شعوب المنطقة أن تركيا التي حافظت على المقدسات الإسلامية إبان وجودها في الوطن العربي وحالت دون سيطرة اليهود عليها جديرة اليوم بأن ترفع علم نصرة القضية الفلسطينية في الحلبة الدولية والأوروبية على وجه الخصوص. وقد اعتبر بعض المحللين أن أهمية الدور التركي تنبع من كونه صوتا مسموعا في معادلة التحالفات الدولية.
إن تركيا اليوم بحكومتها وشعبها أعادت إلى الأذهان قصة آخر السلاطين العثمانيين السلطان عبد الحميد وموقفه من هرتزل وأطماع اليهود في فلسطين. وعلى الرغم من كل الانتقادات الموجهة لتركيا من قبل الكيان الصهيوني والحكومات الغربية بسبب موقفها من القضية الفلسطينية إلا أنها على ما يبدو ماضية في هذا الموقف التاريخي من القضية الفلسطينية.
وأخيرا وليس آخرا ليس مستغربا اليوم الموقف التركي من قضية فلسطين لأن الشعب التركي شعب مسلم شأنه شأن الشعب الأندونيسي والماليزي والإيراني وغيره من الشعوب المسلمة التي لا يمكن أن تتخلى عن الأقصى والقدس والشعب الفلسطيني بأي حال من الأحوال . ولئن كان موقف تركيا الحكومي الرسمي من القضايا العربية والإسلامية قد تبدل في بداية القرن العشرين وأضحى سلبيا إلا أن دوام الحال من المحال كما هو القول المأثور ولا يصح إلا الصحيح فالعودة التركية إلى الحضن الإسلامي والقضايا المصيرية كقضية فلسطين هي عودة طبيعية لا يوجد فيها أي لبس. فالضمير التركي حي كقضية فلسطين ولا يمكن أن يموت لأن ضمير مسلم ينبض بالقضايا الإسلامية .